فصل: تفسير الآية رقم (99)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها‏}‏ أي‏:‏ ببعضها ‏{‏في ظلمات البر والبحر‏}‏ أي‏:‏ في ظلمات الليل في البر والبحر، وأضاف الظلمات إليهما؛ لملابستها بهما، أول في مشتبهات الطرق في البر والبحر، وسماها ظلمات على الاستعارة، ‏{‏قد فصلنا الآيات‏}‏؛ بيناها ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ فإنهم المنتفعون بها‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل الحق جل جلاله نجوم العلم يهتدي السائرون بها في مشكلات أمور الشريعة وأمور الحقيقة، فلبر الشريعة علم يسير به أهلُه إلى جنته ورضوانه، ولبحر الحقيقة علم يسير به أهلها الطالبون لها إلى معرفة ذاته وصفاته، وشهودها في حال جلاله وجماله، ولله در المجذوب رضي الله عنه، حيث قال‏:‏

العلم مرايا من هند، والجهل صندوق راشي *** من لا قرايش يعرف الله ما هو مبني على شي

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ ‏(‏مستقر‏)‏ بفتح القاف، فمصدر، أو اسم مكان ومن قرأه بالكسر، فاسم فاعل، وعلى كل هو مبتدأ، حذف خبره؛ الجار والمجرور، أي‏:‏ لكم مستقر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة‏}‏ آدم عليه السلام ‏{‏فمستقر ومستودع‏}‏ أي‏:‏ فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، أو موضع استقرار واستيداع فيهما، أو‏:‏ فمنكم مُستَقِّر في الأصلاب أو في الأرض، أي‏:‏ قارٌّ فيهما، ومنكم مستودَع في الأرحام أو تحت الأرض‏.‏

وقيل‏:‏ الاستقرار‏:‏ في الأرحام، والاستيداع‏:‏ في الصلب، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَنُقِرُّ في الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ‏}‏ ‏[‏الحَجّ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون‏}‏ أي‏:‏ يفهمون دقائق أسرار القدرة، ذكر مع النجوم، ‏{‏يعلمون‏}‏؛ لأن أمرها ظاهر، وذكر مع تخليق بني آدم؛ ‏{‏يفقهون‏}‏؛ لأن إنشاءهم من نفس واحدة، وتصريفهم على أحوال مختلفة، دقيق يحتاج إلى زيادة تفهم وتدقيق نظر‏.‏

الإشارة‏:‏ بعض الأرواح مستقرها الفناء في الذات، ومستودعها الفناء في الصفات، وهم العارفون من أهل الإحسان، وبعضها مستقرها الفناء في الصفات، ومستودعها الاستشراف على الفناء في الذات، وهم أهل الإيمان بالغيب‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ بعض الأرواح مستقرها الصفات، ومستودعها الذات، بنعت البقاء في الصفات، والفناء في الذات، لأن القَدَم مُنزه أن يحل فيه الحدث‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏منه‏}‏‏:‏ يعود على النبات، و‏{‏خَضِرًا‏}‏‏:‏ نعت لمحذوف، أي‏:‏ شيئًا خضرًا، و‏{‏قِنوَانٌ‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏من النخل‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏مِن طَلعها‏}‏‏:‏ بدل، والطَّلع‏:‏ أول ما يخرج من التمر في أكمامه، والقنوان‏:‏ جمع قنو، وهو العنقود من التمر، و‏{‏مُشتبهًا‏}‏‏:‏ حال من الزيتون والرمان، أو من كل ما تقدم من النبات، و‏{‏جنات‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏نبات كل شيء‏}‏‏.‏ و‏{‏ينعِهِ‏}‏ أي‏:‏ نضجه وطيبه، يقال‏:‏ يَنَعتِ الثمرة، إذا أدركت وطابت‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء‏}‏ أي‏:‏ السحاب أو جانب السماء، ‏{‏ماء فأخرجنا‏}‏، فيه الالتفات من الغيبة إلى التكلم، ‏{‏به‏}‏ أي‏:‏ بذلك الماء، ‏{‏نبات كل شيء‏}‏ أي‏:‏ نبت كل صنف من النبات على اختلاف أنواعه، فالماء واحد والزهر ألوان، ‏{‏فأخرجنا منه‏}‏ أي‏:‏ من النبات، شيئًا ‏{‏خَضِرًا‏}‏ وهو ما يتولد من أصل النبات من الفراخ، ‏{‏نُخرجُ منه‏}‏ أي‏:‏ من الخَضِر، ‏{‏حبًّا مُترَاكبًا‏}‏ وهو السنبل؛ لأن حبه بعضه فوق بعض، وكذلك الرمان والذرة وشبهها، ‏{‏ومن النخل من طلعها قِنوانٌ دانية‏}‏ أي‏:‏ ويخرج من طلع النخل عناقيد متدانية مقريبة من المتناول، أو ملتفة، قريب بعضها من بعض، وإنما اقتصر على المتداني دون العالي؛ لزيادة النعمة والتمكن من النظر فيه، دون ضده‏.‏

‏{‏و‏}‏ أخرجنا أيضًا بذلك الماء، ‏{‏جناتٍ‏}‏ أي‏:‏ بساتين، ‏{‏من أعناب‏}‏ مختلفة الألوان والأصناف ‏{‏و‏}‏ أخرجنا به ‏{‏الزيتونَ والرمانَ‏}‏ على اختلاف أصنافها، ‏{‏مُشتبِهًا وغير مُتشَابه‏}‏ أي‏:‏ من النبات والثمار ما يُشبه بعضه بعضًا، في اللون والطعم والصورة، ومنه ما لا يُشبه بعضُه بعضًا، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد، ولذلك أمر بالنظر والاعتبار فقال‏:‏ ‏{‏انظروا إلى ثمره‏}‏ أي‏:‏ انظروا إلى ثمرة كل واحد من ذلك ‏{‏إذا أثمر‏}‏، ‏{‏و‏}‏ انظروا إلى ‏{‏يَنعِه‏}‏؛ إذا ينع، أي‏:‏ طاب ونضج، والمعنى‏:‏ انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفًا لا منفعة، فيه، ثم ينتقل من طَور إلى طور، حتى يينع ويطيب‏.‏

‏{‏إنَّ في ذلكم لآياتٍ‏}‏ دالة على وجود الحكيم ووحدانيته، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة، ونقلها من حال إلى حال، لا يكون إلا بإحداث قادر، يعلم تفاصيلها، ويُرجَّح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها، ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه، أو ضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك فقال‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن كحَّل عينه بإثمد التوحيد، غرق الكائنات كلها في بحر التوحيد والتفريد، فكل ما يبرز لنا من المظاهر والمطالع ففيه نور من جمال الحضرة ساطع، ولذلك قال ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

عَينِي لِغَيرِ جَمَالِكُمُ لا تَنظرُ *** وَسِوَاكُمُ فِي خَطِرِي لا يَخطُرُ

وقال الششتري رضي الله عنه‏:‏

انظُر جَمالِي شاهدًا *** في كلِّ إنسان

كالماءِ يَجرِي نافِذًا *** في أُس الإغصان

يُسقَى بِماءٍ واحِد *** والزَّهرُ ألوان

وقال صاحبُ العَينية‏:‏

تَجلَّى حَبِيِبي فِي مَرَائِي جَمَالِهِ *** فَفي كُلِّ مَرئًى لِلحبِيبِ طَلاَئِعُ

فَلَمّا تَبَدى حُسنُهُ مُتَنَوّعًا *** تَسَمَّى بأسمَاءٍ فَهُون مَطَالِعُ

فما برز في عالم الشهادة هو من عالم الغيب على التحقيق، فرياض الملكوت فائضة من بحر الجبروت، ‏(‏كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان‏)‏، ولا يعرف هذا ذوقًا إلا أهل العيان، الذين وحدوا الله في وجوده، وتخلصوا من الشرك جليه وخفيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 102‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الجن‏}‏‏:‏ مفعول أول لجعلوا، و‏{‏شركاء‏}‏‏:‏ مفعول ثانٍ، وقدّم لاستعظام الإشراك، أو ‏{‏شركاء‏}‏‏:‏ مفعول أول، و‏{‏لله‏}‏‏:‏ في موضع المفعول الثاني، و‏{‏الجن‏}‏‏:‏ بدل من شركاء، وجملة ‏{‏خلقهم‏}‏‏:‏ حال، و‏{‏بديع‏}‏‏:‏ خبر عن مضمر، أو متبدأ وجملة ‏{‏أنَّى‏}‏‏:‏ خبره، وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي‏:‏ مبدع السماوات، أو إلى فاعلها‏:‏ أي‏:‏ بديع سماواته، من بَدُعَ؛ إذا كان على نمط عجيب، وشكل فائق، وحُسن لائق‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ توبيخًا للمشركين‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء‏}‏ في عبادته، وهم ‏{‏الجن‏}‏ أي‏:‏ الملائكة؛ لاجتنانهم أي‏:‏ استتارهم، فعبدوهم واعتقدوا أنهم بنات الله، أو الجن حقيقة، وهم الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يُطاع الله تعالى، أو‏:‏ عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، فقد أشركوا مع الله، و‏{‏و‏}‏ الحال أن الله قد ‏{‏خلقهم‏}‏ أي‏:‏ الجن أي‏:‏ عبدوهم وهم مخلوقون، أو الضمير للمشركين، أي‏:‏ عبدوا الجن، وقد عَلِمُوا أن الله قد خلقهم دون الجن لعجزه، وليس من يَخلُق كمَن لا يَخلُق‏.‏

‏{‏وخرقوا له‏}‏ أي‏:‏ اختلفوا وافترَوا، أو زوَّرُوا برأيهم الفاسد له ‏{‏بنين‏}‏ كالنصارى في المسيح، واليهود في عُزَير، ‏{‏وبنات‏}‏ كقول العرب في الملائكة‏:‏ إنهم بنات الله تعالى الله عن قولهم قالوا ذلك ‏{‏بغير علم‏}‏ أي‏:‏ بلا دليل ولا حجة، بل مجرد افتراء وكذب، ‏{‏سبحانه وتعالى‏}‏ أي‏:‏ تنزيهًا له، وتعاظم قدره ‏{‏عما يصفون‏}‏ من أن له ولدًا أو شريكًا‏.‏

وكيف يكون له الولد أو الشريك، وهو ‏{‏بديعُ السماوات والأرض‏}‏ ‏؟‏‏.‏ أي‏:‏ مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، والمعنى‏:‏ أنه تعالى مُبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة‏:‏ لأنه تعالى مُنزه عن الأفعال بالمادة‏.‏ والوالد عنصر الولد، ومُنفصل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد‏؟‏‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنى يكونُ له ولدٌ‏}‏ أي‏:‏ من أين، أو كيف يكون له ولد، ‏{‏ولم تكن له صاحبة‏}‏ يكون منها الولد، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة في العادة، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه، وكيف أيضًا يكون له ولد ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏خلقَ كلَّ شيء‏}‏، فيكف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه‏؟‏ ‏{‏وهو بكل شيء عليم‏}‏ أي‏:‏ أحاط بما من شأنه أن يعلُم كائنًا ما كان، فلا تخفى عليه خافية مما كان، ومما سيكون من الذوات والصفات، ومن جملتها‏:‏ ما يجو عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات، هو ‏{‏الله‏}‏ المستحق للعبادة خاصة، ‏{‏ربُكم‏}‏ أي؛ مالك أمركم لا شريك له أصلاً، ‏{‏خالقُ كل شيء‏}‏، مما كان وسيكون، ولا تكرار مع ما قبله؛ لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لِمَا كان فقط، كما تقتضيه صيغة الماضي، بخلاف الوصف يصلح للجميع، وإذا تقرر أنه خالق كل شيء ‏{‏فاعبدوه‏}‏؛ فإن من كان خالقًا لكل شيء، جامعًا لهذه الصفات، هو المستحق للعبادة وحده، ‏{‏وهو على كل شيء وكيل‏}‏ أي‏:‏ هو متولي أمور جميع عباده ومخلوقاته، التي أنتم من جملتها، فَكِلُوا أمركم إليه، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من خضع لمخلوق في نيل حظ دنيوي، إنسيًا أو جنيًا، أو أطاعه في معصية الخالق، فهو مشرك به مع ربه، ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم في مخالفة الهوى؛ لئلا تميل بهم إلى شيء من السِّوى، وتحرروا من رق الطمع، وتوجهوا بمهمتهم إلى الحق وحده، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها، جليها وخفيها‏.‏ حفظنا الله بما حفظهم به‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ أي‏:‏ لا تحيط به، ولا تناله بحقيقته، وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏لا تدركه في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة‏)‏، ومذهب الأشعرية‏:‏ أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً، لأن موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال، وأحالته المعتزلة مُطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها؛ لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص؛ فإنه في قوة قولنا‏:‏ لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو يُدرك الأبصارَ‏}‏ أي‏:‏ يحيط علمه بها؛ إذ لا تخفى عليه خافية، ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ فيدرك ما لا تدركه الأبصار، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ، أي‏:‏ لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها‏.‏ قاله البيضاوي وأبو السعود‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهره الأكوان، لكنه لحكمته وقدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار والأسرار، بين الحس والمعنى، بين مظهر الربوبية والب العبودية، فالأنوار ما ظهر من الأواني، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة‏.‏ فالحس رداء للمعنى، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني، فلم تحجبه الأواني عن المعاني، بل تمتحق في حقه الأواني، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني‏.‏ لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال‏:‏ ‏(‏استهلاك الحس في المعنى‏)‏‏.‏ فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه، غاب وجوده في وجود معبوده، فشاهد الحقَّ بالحق‏.‏ فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانًا‏.‏ ولذلك قال شاعرُهم‏:‏

مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا *** وعذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ

وقال في الحِكَم‏:‏ «ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه؛ إذ لا شَيءَ مَعَهَ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُدركه الأبصارُ‏}‏ أي‏:‏ الأبصار الحادثة، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ لا تدركه الأبصار، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله، وكيف يدركه الحدثان‏؟‏ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم‏.‏ ه‏.‏ أو لا تحيط به، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة‏.‏ وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول، قال‏:‏ إدراك الهوية ممتنع، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته‏.‏

وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني، ناقلاً عن المشايخ‏:‏ إنما يتجلى الله لأهل الجنة، ويريهم ذاته تعالى، في حجاب صفاته، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ التجلي لا يكون بكلية الذات، ولا بكلية الصفات، وإنما يكون على قدر الطاقات، فيستحيل أن يقال‏:‏ تجلى كل الهوى لذرة واحدة، وإنما يتجلى لها على قدرها‏.‏ ه‏.‏

وتتفاوت الناس في لذَّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم في الدنيا، وتدوم لهم النظرة على قدر اسغراقهم هنا، فمن كان هنا محجوبًا لا يرى إلا الحس، كان يوم القيامة كذلك، إلا في وقت مخصوص، يُغيبه الحق تعالى عن حسه، فيشاهد معاني أسرار الربوبية في مظاهر أنوار صفاته‏.‏ ومن كان هنا مفتوحًا عليه في شهود المعاني، كان يوم القيامة كذلك، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة‏.‏

قال الغزالي في كتاب الأربعين‏:‏ إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة‏.‏

قلت‏:‏ ومعنى كلامه‏:‏ أن ما عرفه به هنا من التجليات، صار بعينه هناك مشاهدة؛ لأن المعنى هناك غالب على الحس، بخلاف دار الدنيا، الحس فيها غالب، إلاَّ لمن غاب عنه واستهلكه‏.‏ ثم قال‏:‏ ويكون لكل واحد على قدر معرفته، ولذلك تزيد لذة أولياء الله تعالى في النظر على لذة غيرهم، ولذلك يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة، ويتجلى للناس عامة‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ ولَمَّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة، ثم ذكر حديث التجلي لأبي بكر المتقدم‏.‏ ثم قال‏:‏ فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر، ممن هو دونه، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجده، إلا عُشرَ عُشرِه، إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشره، ولما فَضَل الناسَ بسر وقر في صدره، فضل لا محالة بِتَجلًّ انفرد به‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ يتجلى الحق للعبد، تجليًا يكون انكشاف تجلَّيه، بالإضافة إلى ما علمه، كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله أي‏:‏ إلى ما وصفه له الواصف‏.‏ ثم قال‏:‏ وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية، ثم قال‏:‏ المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تستكمل، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنه جلاله مُحال، وكلما كثرت المعرفة وقويت؛ كثر النعيم في الآخرة، وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن؛ كثر الزرع وحسن، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا، ولا يزرع إلا في صعيد القلب، ولا حصاد إلا في الآخرة‏.‏ ه‏.‏

قال شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه‏:‏ بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم، وفي تفسير الأقليشي لقوله‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏:‏ ليس لهذه الهداية ما دام العبد في الدنيا نهاية، حتى إذا حصل في جوار الجبار، ونظر إلى وجهه العظيم، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه في الدنيا لصراطه المستقيم‏.‏

ه‏.‏ وقال في نوادر الأصول‏:‏ في الحديث‏:‏ «إنَّ مِن أهل الجنَّة من ينظرُ إلى الله عزَّ وجَلَّ غُدوَةً وعَشيًّا» ورُوِي عن معاذ أنه قال‏:‏ «صِنفٌ مِن أهلِ الجَنَّة مَن يَنظُر إلى الله عزَّ وجَلَّ، لا يُستر الربُّ عنهم ولا يحتَجِبُ» ثم قال‏:‏ وذُكر أن الرضوان آخر ما ينال أهلُ الجنة، ولا شيء أكبر منه، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏، قال الورتجبي‏:‏ هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه، مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم، وجودًا وعدمًا، أي‏:‏ وإنما يُرى بنوره، لا بالحواس الخفاشية، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه، وتنخنس عند انكشاف سبحاته‏.‏ ه‏.‏ على نقل الحاشية الفاسية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ البصائر‏:‏ جمع بصيرة، وهي عَينُ القلب، كما أن البصر عين البدن، فالبصيرة ترى المعاني القديمة، والبصر يرى الحسيات الحادثة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قد جاءكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏بصائرُ من ربكم‏}‏ أي‏:‏ براهين توحيده، ودلائل معرفته، حاصلةَ من ربكم، تنفتح بها البصائر، وتبصر بها أنوار قدسه، ‏{‏فمن أبصرَ‏}‏ الحق، وآمن به، واستعمل الفكر فيه حتى عرفه، ‏{‏فلنفسه‏}‏ أبصر، ولها نفع، ‏{‏ومن عَميَ‏}‏ عنها، ولم يرفع رأسًا، وضل عن الحق، ‏{‏فعليها‏}‏ وباله وضرره، ولا يتضرر بها غيره، ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ أرقب أعمالكم وأُجازيكم، وإنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها‏.‏

الإشارة‏:‏ البصيرة كالبصر، أدنى شيء يقع فيها يَضُرُّ بناظرها، وهي على أقسام‏:‏ منها ما تكون عمياء، والعياذ بالله، وهي التي فسد ناظرها بفساد الاعتقاد، كبصيرة الكفار ومن قاربهم، ومنها ما تكون مريضة فقط، لا تقاوم شعاع شمس التوحيد الخاص، وهي بصيرة أهل الغفلة، ومنها ما يخف مرضها فيكون لها شعاع، تدرك قرب نور الحق منها؛ وهي بصيرة المتوجهين من العباد والزهاد ونهاية الصالحين‏.‏

ومنها ما تكون قريبة البُرء والصحة، قد انفتحت، لكنها حيرى؛ لما فاجأها من النور، وهي بصيرة المريدين السائرين من أهل الفناء، ومنها ما تكون صحيحة قوية، قد تمكنت من شهود الأنوار، ورسخت في بحر الأسرار، وهي بصيرة العارفين المتمكنين في مقام البقاء، وقد أشار في الحِكَم إلى الثلاثة فقال‏:‏ «شُعاعُ البصيرة يُشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق لا عدمك ولا وجودك، كان اللهُ ولا شيءَ معهُ، وهو الآنَ علَى ما عليه كان»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ تصريف الشيء‏:‏ إجراؤه على أحوال متعاقبة وجهات مختلفة، ومنه‏:‏ تصريف الرياح لهبوبه من جهات مختلفة، ولما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة في أوقات متعاقبة، شبهت بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة، ‏{‏وليقولوا‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ وليقولوا‏:‏ درست، صرفنا الآيات، واللام للعاقبة، وكذلك‏:‏ ‏{‏ولنبينه‏}‏‏:‏ المتعلق واحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ومثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات، من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 95‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِِرُ مِن رَّبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 104‏]‏ ‏{‏نُصرِّف الآيات‏}‏ في المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها، ‏{‏وليقولوا‏}‏ لك‏:‏ ‏{‏دارسْتَ‏}‏ أهل الكتاب، وتعلمت ذلك منهم، وليس بوحي، أو ‏{‏درسَت‏}‏ هذه الأخبار وعفت، وأخبرت بها من إملاء غيرك عليك، كقولهم‏:‏ أساطير الأولين، وليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء، وإليهم الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ولنبينه لقوم يعلمون‏}‏ أي‏:‏ وليتضح معناه عند قوم آخرين، فيهتدوا به إلى معرفتي وتوحيدي ومحل رضواني وكرامتي، فالخطاب متحد، والأثبر مختلف على حسب السابقة‏.‏

الإشارة‏:‏ ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية كالعلوم اللدنية والمواهب الربانية لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى به، بل لا بد من الاختلاف، فقوم قالوا‏:‏ هذه العلوم‏.‏‏.‏‏.‏ دارس فيها وتعلمها، وقوم قالوا‏:‏ بل هي من عند الله لا كسب فها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 118‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اتبع ما أُوحى إليك من ربك‏}‏ بالدوام على التمسك به، والاهتداء بهديه، ودم على توحيده، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏؛ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره، ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏، فلا تحتفل بأقوالهم، ولا تلتفت إلى رأيهم، وهذا محكم، أو‏:‏ أعرض عن عقابهم وقتالهم، وهو منسوخ بآية السيف، ‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏}‏‏:‏ لكن سبقت مشيئته بإشراكهم، ولو أراد إيمانهم لآمنوا، وهو حجة على المعتزلة، ‏{‏وما جعلناك عليهم حفيظًا‏}‏‏:‏ رقيبًا، ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ تقوم بأمرهم، وتُلجئهم إلى الإيمان؛ ‏{‏إَن أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فَاطِر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الإعراض عن الخلق والاكتفاء بالملك الحق ركن من أركان الطريق، قال الشيخ زروق رضي الله عنه‏:‏ أصول الطريقة خمسة أشياء‏:‏ تقوى الله في السر والعلانية، واتباع الرسول في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء، والرضا عن الله في القليل والكثير‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تَسُبُّوا‏}‏ أصنامهم ‏{‏الذين‏}‏ يدعونها آلهة، ويخضعون لها ‏{‏من دون الله‏}‏ أي‏:‏ ولا تذكروا آلهتهم بسوء، ‏{‏فيَسُبوا الله عَدْوًا‏}‏ أي‏:‏ ظُلْمًا وتجاوزًا عن الحق إلى الباطل، ‏{‏بغير علم‏}‏ أي‏:‏ على جهالة بالله تعالى، وبما يجب أن يذكر به من التعظيم، رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم، فقالوا‏:‏ لتنتهين عن آلهتنا أو لنَهجُونَّ إلهك، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنُهوا؛ لئلا يكون سبهم سببًا لسب الله تعالى، واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت لمعصية راجحة وجب تركها، فإنَّ ما يُؤدي إلى الشر شر‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ وقاية العرض بترك سنة واجب في الدنيا‏.‏ ه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك زينَّا لكل أمة عملهم‏}‏ من الخير والشر، نحملهم على ما سبق لهم توفيقًا أو تخذيلاً، أو يكون مخصوصًا بالشر، أي‏:‏ زيَّنا لكل أمة من الكفرة عملهم السوء؛ كَسَب الله تعالى وغيره من الكفر، ‏{‏ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئُهم بما كانوا يعملون‏}‏ من الخير فيُجازيهم عليه، أو من الشر فيعاقبهم عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ العارف الكامل لا يُنقِص شيئًا من مصنوعات الله، ولا يصغر شيئًا من مقدورات الله، بل يتأدب مع كل شيء؛ لرؤية صنعة الله في كل شيء، وكذلك المريد اللبيب، يتأدب مع كل من ظهر بالخصوصية في زمنه، كان صادقًا أو كاذبًا؛ لئلا يؤدي إلى تنقيص شيخه، حين يذكر غيره بنقص أو غض‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لَعَن الله مَن يَسُبُّ والدَيهِ» فقالُوا‏:‏ وكيف يسبُّ والدَيه يا رسول الله‏؟‏ قال «يَسُبُّ أبا الرجُلِ فيسُبُّ الرجلُ أباهُ وأُمه» أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏جهد‏}‏‏:‏ مصدر لعامل محذوف، أي‏:‏ واجتهدُّوا جهد أيمانهم، وهو حال، أي‏:‏ وأقسموا جاهدين أيمانهم، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏أنها‏}‏؛ بالفتح، فهو مفعول بيُشعركم، أي‏:‏ وما يُدريكم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون، وقيل‏:‏ ‏{‏لا‏}‏‏:‏ مزيدة، أي‏:‏ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون إذا رأوها، وقيل‏:‏ إن، هنا، بمعنى لعل‏.‏ ومَن قرأ بالكسر فهو استئناف، وتم الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏وما يشعركم‏}‏ أي‏:‏ وما يشعركم ما يكون منهم، فعلى القراءة بالكسر، يُوقف على‏:‏ ‏{‏ما يشعركم‏}‏، وأما على القراءة بالفتح، فإن كانت أنَّ مصدرية لم يوقف عليه؛ لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى‏:‏ لعل، فأجاز بعض الناس الوقف، ومنعه بعضهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأقسموا‏}‏ أي‏:‏ المشركون، ‏{‏بالله‏}‏ واجتهدوا في أيمانهم، ‏{‏لئن جاءتهم آية‏}‏ ظاهرة يشهدونها، ‏{‏ليُؤمنن بها‏}‏ وبمن جاء بها، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إنما الآيات عند الله‏}‏ وفي قدرته وإرادته، يُظهرها حيث شاء، وليس في قدرتي منها شيء، ‏{‏وما يُشعركم‏}‏ أي‏:‏ وما يُدريكم أيها المؤمنون، ‏{‏أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏ بها، لما سبق لهم من الشقاء، وقد كان المؤمنون يتمنَّون إنزالها طمعًا في إيمانهم، وفي تنبيه على أنه تعالى إنما لم ينزلها؛ لعلمه بأنها ‏{‏إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏ بها‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمشركين، ويتأتى هذا على كسر «إن»، أو على قراءة ابن عامر وحمزة‏:‏ ‏{‏لا تؤمنون‏}‏؛ بتاء الخطاب، وقرىء‏:‏ ‏{‏وما يُشعركم‏}‏ بالغيبة، فيكون إنكارًا لهم على حلفهم‏.‏

ثم ذكر سبب عدم إيمانهم فقال‏:‏ ‏{‏ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم‏}‏ عند نزول الآية، أي‏:‏ نصرف قلوبهم ونحولها عن الحق، فلا يفقهون بها، ونقلب أبصارهم عن النظر والتفكر، فلا يُبصرون بها الحق، فيصرون عن الإيمان بما أنزل إليك ‏{‏كما لم يؤمنوا به‏}‏ أي‏:‏ بما أنزل من الآيات، ‏{‏أول مرة ونذرهم في طغيانهم‏}‏ أي‏:‏ في كفرهم وجحدهم ‏{‏يعمهون‏}‏ أي‏:‏ يتحيرون، فلا نهديهم هداية المؤمنين‏.‏

الإشارة‏:‏ سألني بعض العوام، فقال لي‏:‏ ليس لكم ولا لأصحابكم كرامات تظهر فيمن آذاكم، فقد كان أصحاب سيدي فلان وفلان يُظهرون الكرامات، وينفذون في من آذاهم‏؟‏ فقلت له‏:‏ نحن على دم نبينا صلى الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين، فقد أُوذي وضُرِب، فلما خيَّره ملكُ الجبال في أن يُطبق عليهم الأخشَبين أي الجَبلَين قال‏:‏ «لا، لعل الله تعالى يُخرج منهم مَن يعبُد الله» وقال حين أكثروا إيذاءه‏:‏ «اللهُمَّ اغفِر لِقَومي فإنَّهُم لا يَعلَمُون» فالأولياء المحققون‏:‏ رحمة للعباد، يتحملون أذاهم، ويتوجهون لمن آذاهم في الدعاء له بالهداية والتوفيق، فهم قوم لا يشقَى جليسهم، جالَسَهم بالإنكار أو بالإقرار، وقد ظهرت الكرامات على بعض الأولياء ولم ينقطع عنهم الإنكار، فإنَّ الإيمان أو التصديق بالنبي أو الولي إنما هو محض هداية من الكبير العلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قبلاً‏}‏‏:‏ بكسر القاف؛ معاينة، وبضمتين‏:‏ جمع قبيل، أي‏:‏ ضمناء، وهو حال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الرد على المشركين، حين أقسموا‏:‏ لئن رأوا آية ليؤمنن بها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة‏}‏ تشهد لك بالنبوة كما اقترحوا، ‏{‏وكلمهم الموتى‏}‏ كما طلبوا بقولهم‏:‏ ‏{‏فَأتُواْ بِأَبَآئِنَآ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 36‏]‏، وقالوا‏:‏ إنَّ قُّصيًّا كان شيخ صِدق، فابعثه لنا يكلمنا ويشهد لك بما تدعي‏.‏

‏{‏و‏}‏ لو ‏{‏حشرنا عليهم‏}‏ أي‏:‏ جمعنا عليهم، ‏{‏كل شيء‏}‏ من الحيوانات والجمادات، معاينة، أو ضمناء، تشهد لك بالرسالة والنبوة، ‏{‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ بك في حال من الأحوال، ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ إيمانهم فيمن لم يسبق له الشقاء، ‏{‏ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏ أنهم لو أُوتوا بكل آية لم يؤمنوا، فكيف يقسمون بالله جَهدَ أيمانهم على ما لا يعلمون‏؟‏، فالجهل بهذا المعنى حاصل لأكثرهم، ومطلق الجهل حاصل لجميعهم، أو‏:‏ ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون، فيتمنون نزول الآية طمعًا في إيمانهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تسكين لقلوب الأولياء الداعين إلى الله، حين يرون الخلق قد حادوا عن باب الله، وتعلقت هممهم بالدنيا الدنية، وتشتتت قلوبهم، وضاعت عليهم أعمارهم، فيتأسفون عليها، فإذا تفكروا في هذه الآية وأمثالها سكنوا وردوا أمر عباد الله إلى مشيئته وإرادته، فلو شاء الله لهدى الناس جميعًا، ولا يزالون مختلفين‏:‏ ‏{‏ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏شياطين‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏عدو‏}‏؛ إذ هو بمعنى الجمع، أو مفعول أول لجعلنا، و‏{‏عدوًا‏}‏‏:‏ مفعول ثان، والضمير في ‏{‏فعلوه‏}‏‏:‏ للوحي، أو للعداوة، و‏{‏غرورًا‏}‏‏:‏ مفعول له، أو مصدر في موضع الحال ‏{‏لتصغى‏}‏‏:‏ عطف على غرورًا، أو متعلق بمحذوف، أي‏:‏ فعلنا ذلك لتصغى‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في تسلية نبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ وكما جعلنا لك أعداء من الكفار، ‏{‏جعلنا لكل نبيٍّ عدُوًّا‏}‏ من شياطين ‏{‏الإنس والجن‏}‏ أي‏:‏ من مردة الفريقين، وشياطين الإنس أقبح؛ لأنه يأتي في صورة ناصح، لا يدفع بتعوذ ولا غيره‏.‏ ‏{‏يُوحِي‏}‏ أي‏:‏ يُوسوس، ‏{‏بعضهم إلى بعض‏}‏، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه، يُلقى إليه ذلك الشيطان ‏{‏زخرف القول‏}‏ أي‏:‏ أباطيله، أي‏:‏ قولاً مزخرفًا مُزَوَّقًا ‏{‏غرورًا‏}‏ أي‏:‏ لأجل الغرور، فإن أراد الله خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه، وكل شيء يقدره وقضائه، ‏{‏ولو شاء ربك‏}‏ هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحي، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء، ‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏ على الله من الكفر وغيره، فلا تهتم بشأنهم‏.‏

وإنما فعلنا ذلك الإيحاء ‏{‏لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ فيغتروا به، ‏{‏وليَرضَوهُ‏}‏ لأنفسهم، ‏{‏وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏ أي‏:‏ وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحي من الجن أو الأنس، وفي الآية دليل لأهل السنة في أن الله خالق الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، فالمعصية خلقها وقدرها، ولم يَرضهَا، ‏{‏لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كما جعل الله لكل نبي عدوًا من شياطين الإنس والجن؛ جعل للأولياء كذلك؛ تحويشًا لهم إليه، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته، قال في الحِكَم‏:‏ «إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكنًا إليهم، أراد أن يُزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء»‏.‏ وقال في لطائف المنن‏:‏ اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا، وتكمل فيهم المزايا، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد، أو يميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رزق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له» كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، ويتعلق بالملك الحق‏.‏ ه‏.‏

وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا، فرأيتُ يُقال لي‏:‏ مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الصيحة من العدو، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم‏.‏

ه‏.‏

وقال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏عداوة العدو حقًا‏:‏ اشتغالك بمحبة الحبيب حقًا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب‏)‏‏.‏ وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له‏:‏ لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك؛ فإنه هو الذي حركه عليك؛ ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، فاشتغلوا بأذى من آذاهم، فدام الآذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم‏.‏ ه‏.‏

وهذا كله إنما يكون في البدايات، كما قال الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا‏)‏‏.‏‏.‏ فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم، حكَّمهم في العباد، وأذلهم لهم، فيكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله، ينتصر الله به لنفسه؛ كما نبه على ذلك في لطائف المنن‏.‏ وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام؛ تشريعًا لما ذكرنا، وتحذيرًا من الانتصار للنفس، وعدم تمحض النصرة للحق‏.‏ وعند الرسوخ في اليقين، والأمن من مزاحمة الصدق غيره، وقع الإذن في الجهاد، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكامل من أول نشأته، وإنما ذلك تشريع لغيره، وترفيع لرتبته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏غير‏}‏‏:‏ مفعول، و‏{‏حَكَمًا‏}‏‏:‏ حال، وهو أبلغ من حاكم، ولذلك لا يوصف به غير العادل، و‏{‏صدقًا وعدلاً‏}‏‏:‏ تمييز، أو حال، أو مفعول به‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ قل يا محمد‏:‏ ‏{‏أفغير الله‏}‏ أطلبُ ‏{‏حَكَمًا‏}‏ يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق مِنَّا من المبطل، ‏{‏وهو الذي أنزل إليكم الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن المعجز، ‏{‏مُفصَّلاً‏}‏؛ مُبينًا قد بيّن فيه الحق من الباطل، بحيث انتفى به الالتباس، فهو الحاكم بيني وبينكم، فلا أطلب حاكمًا غيره، وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه مُغنٍ عن سائر الآيات‏.‏ ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب‏}‏ كأحبار اليهود، ‏{‏يعلمون أنه منزل من ربك بالحق‏}‏؛ لتصديقه ما عندهم، وموافقته له في كثير من الأحبار، ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل من ربك، والمراد غيره عليه الصلاة والسلام ممن يطرقه ارتياب، والمعنى‏:‏ أن الأدلة تعاضدت على صحته، فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه‏.‏

‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏؛ آيات القرآن، بلغت الغاية في التمام والكمال، ‏{‏صِدقًا وعدلاً‏}‏ أي‏:‏ من جهة الصدق والعدل، صدقًا في الأخبار والمواعيد، وعدلاً في الأقضية والأحكام، فلا أصدَق منها فيما أخبرت، ولا أعدل منها فيما حكمت، ‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ أي‏:‏ لا أحد يقدر أن يبدل منها شيئًا بما هو أصدق وأعدل، ولا أن يحرف شيئًا منها، كما فُعل بالتوراة، فهو ضمان من الحق لحفظ القرآن، كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 9‏]‏ أو‏:‏ لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها، ‏{‏وهو السميع‏}‏ لكل ما يقال، ‏{‏العليم‏}‏ بكل ما يضمر، فمن ألحد أو بدل فالله عليم به‏.‏

الإشارة‏:‏ من قواعد أهل التصوف‏:‏ الرجوع إلى الله في كل شيء، والاعتماد عليه في كل نازل، والتحاكم إلى الله في كل أمر، إن توقفوا في حكم رجعوا إلى كتاب الله، فإن لم يجدوه نصًا، رجعوا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوه، استفتوا قلوبهم، وفي الحديث عنه‏:‏ «استَفت قلبَكَ وإن أفتَاكَ المُفتُونَ وأفتوك» وفي بعض الآثار قالوا‏:‏ يا رسول الله؛ أرأيت إن اختلفنا بعدك، ولم نجد نصًا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ردوه إلى صلحائكم، واجعلوه شُورَى بينهم ولا تَتَعَدّوا رأيهم» أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من يضل‏}‏‏:‏ موصولة، أو موصوفة في محل نصب بفعل دل عليه ‏{‏أعلم‏}‏، أي‏:‏ يعلم من يضل، فإن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إجماعًا‏.‏ أو مبتدأ، والخبر‏:‏ ‏{‏يضل‏}‏ على أن ‏{‏من‏}‏ استفهامية، والجملة‏:‏ معلق عنها الفعل المقدر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لرسوله عليه الصلاة والسلام ولمن كان على قدمه‏:‏ ‏{‏وإن تُطع أكثر من في الأرض‏}‏؛ من الكفار أو الجهال أو من اتبع هواه ‏{‏يضلوك عن‏}‏ طريق ‏{‏الله‏}‏، الموصلة إلى معرفته، وحلول رضوانه، فإن الضال لا يأمر إلا بما هو فيه، مقالاً أو حالاً‏.‏ والمراد بهم‏:‏ من لا يقين عندهم، بل ‏{‏إن يتبعون إلاَّ الظن‏}‏، وهو ما استحسنته عقولهم، إما تقليدًا، كظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، أو ما ابتدعوه برأيهم الفاسد من العقائد الزائفة والآراء الفاسدة، ‏{‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏ أي‏:‏ يكذبون على الله فيما ينسبون إليه؛ كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وصُلة إلى الله، وتحليل الميتة وتحريم البحائر، أو يقدّرون في عقولهم أنهم على شيء، وكل ذلك عن تخمين وظن لا يقين فيه، ثم قال لنبيه‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ أي‏:‏ هو عالم بالفريقين، لا يخفى عليه أهل الحق من أهل الباطل‏.‏

الإشارة‏:‏ مخالطة العموم والركون إليهم والمعاملة معهم سموم قاتلة، قال بعض الصوفية‏:‏ قلت لبعض الأبدال‏:‏ كيف الطريق إلى التحقيق والوصول إلى الحق‏؟‏ قال‏:‏ لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت‏:‏ لا بد لي، قال‏:‏ لا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة، قلت‏:‏ لا بُد لي، قال‏:‏ فلا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت‏:‏ أنا بين آظهرهم، لا بد لي من معاملتهم، قال‏:‏ لا تسكن إليهم؛ فإن السكون إليهم هلكة، قلت‏:‏ هذا لعله يكون، قال‏:‏ يا هذا، تنظر إلى اللاعبين، وتسمع إلى كلام الجاهلين، وتعامل البطَّالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة المعاملة في قلبك مع الله عز وجل‏!‏‏!‏ هيهات، هذا لا يكون أبدًا‏.‏ ه‏.‏

وفي الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخوَفُ ما أخافُ على أمَّتِي ضَعفُ اليَقِين» وإنما يكون برؤية أهل الغفلة ومخالطة أرباب البطالة والقسوة، وتربية اليقين وصحته إنما تُكتسب بصحبة أهل اليقين واستماع كلامهم، والتودد إليهم وخدمتهم‏.‏ وفي بعض الأخبار‏:‏ ‏(‏تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين‏)‏، وفي رواية‏:‏ «فَإنَّي أتعلَّمُه»، والحاصل‏:‏ أن الخير كله في صحبة العارفين الراسخين في عين اليقين‏.‏ أو حق اليقين، وما عداهم يجب اعتزالهم، كيفما كانوا، إلا بقصد الوعظ والتذكير، ثم يغيب عنهم، وإلى هذا أشار ابن الفارض رضي الله عنه بقوله‏:‏

تَمَسّك بأذيالِ الهَوَى واخلعَ الحَيَا *** وخَلّ سَبِيلَ النَّاسِكينَ وإن جَلُّوا

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 121‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه‏}‏ عند ذبحه، ولا تتورعوا منه، ‏{‏إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏، فإن الإيمان يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى، واجتناب ما حرمه، ‏{‏وما لكم ألاَّ تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه‏}‏ أي‏:‏ ما يمنعكم منه، وأيّ غرض لكم في التحرُّج عن أكله‏؟‏‏.‏ ‏{‏وقد فصَّل لكم‏}‏ في الكتاب، أو فصَّل الله لكم ‏{‏ما حرم عليكم‏}‏ مما لم يحرم بقوله‏:‏ ‏{‏حُرِمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية ‏{‏إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ مما حرم عليكم؛ فإنه حلال حال الضرورة‏.‏

‏{‏وإنَّ كثيرًا ليُضلون‏}‏ بتحليل الحرام وتحريم الحلال ‏{‏بأهوائهم‏}‏ أي‏:‏ بمجرد أهوائهم ‏{‏بغير علم‏}‏ ولا دليل، بل بتشهي أنفسهم، ‏{‏إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏}‏ المجاوزين الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام، ‏{‏وذَرُوا‏}‏ أي‏:‏ اتركوا ‏{‏ظاهرَ الإثم وباطنه‏}‏ أي‏:‏ سره وعلانيته، أو ما يتعلق بالجوارح والقلب، ‏{‏إن الذين يكسبون الإثم‏}‏ سرًا أو علانية، ‏{‏سيُجزون بما كانوا يقترفون‏}‏؛ يكتسبون‏.‏

ولما أمرهم بأكل الحلال نهاهم عن الحرام، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه‏}‏، بأن ترك التسمية عليه عمدًا لا سهوًا؛ كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تؤكل مطلقًا، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ذَبِيحَةُ المُسلِم حَلالٌّ وإن لَم يُذكَر اسمُ اللهِ عَلَيهِ»، وقال أحمد وداود‏:‏ لا تؤكل إن تركت مطلقًا، عمدًا أو سهوًا‏.‏

وقال ابن جزي‏:‏ إنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها مما ذُبح للنُصب، فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين، وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وإنه‏}‏ أي‏:‏ الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه ‏{‏لفسق‏}‏ أو‏:‏ وإنه أي‏:‏ عدم ذكر اسم الله على الذبيحة، لفسق ومن تزيين الشياطين، ‏{‏إن الشياطين ليُوحون‏}‏؛ ليوسوسون ‏{‏إلى أوليائهم‏}‏ من الكفار ‏{‏ليُجادلوكم‏}‏ بقولهم‏:‏ إنكم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله‏.‏ وهذا يؤيد أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو الميتة، ‏{‏وإنْ أطعتموهم‏}‏ في استحلال ما حرمتُ عليكم، ‏{‏إنكم لمشركون‏}‏ مثلهم، لأن مَن أحلّ ما حرّم الله فقد كفر، والجواب عن شبهتهم‏:‏ أن الذكاة تطهير لخبث الميتة، مع ضرب من التعبّد‏.‏

الإشارة‏:‏ ليس المراد من التسمية على الطعام أو غيره مجرد اللفظ، وإنما المراد حضور المسمى، وهو شهود المنعم في تلك النعمة؛ لأن الوقت الذي يغلب فيه حظ النفس، ينبغي للذاكر المتيقظ أن يغلب فيه جانب الحق، فيكون تناوله لتلك النعمة بالله من الله إلى الله، وهذا هو المقصود من الأمر بذكر اسم الله، لأن الاسم عين المسمى في التحقيق، فإن كان الأكل أو غيره مما شرعت التسمية في أوله، على هذا التيقظ، فهو طائع لله وعابد له في أكله وشربه، وسائر أحواله، وإن كان غافلاً عن هذا، فأكله فسق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَأكُلُوا مِمَّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عَلَيهِ وَإنَّهُ لَفسقٌ‏}‏، سبب ذلك‏:‏ غلبة الغفلة‏.‏

والغفلة من وحي الشيطان، ‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏}‏‏.‏ أو‏:‏ ولا تنظروا إلى الأشياء بعين الفرق والغفلة، بل اذكروا اسم الله عليها وكلوها بفكرتكم ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله‏}‏ عليه من الأشياء؛ فإنه غفلة وفسق في الشهود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ‏}‏؛ هو ما ظهر على الجوارح من الذنوب، وقوله‏:‏ ‏{‏وباطنه‏}‏؛ هو ما كمن في السرائر من العيوب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كَمَنَ‏}‏‏:‏ موصولة، و‏{‏مَّثَلُه‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏في الظلمات‏}‏‏:‏ خبره، وقيل‏:‏ مثل هنا زائدة، أي‏:‏ كمن هو في الظلمات، و‏{‏ليس بخارج‏}‏‏:‏ حال من الضمير في الخبر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتًا‏}‏ بالكفر والجهل ‏{‏فأحييناه‏}‏ بالإيمان والعلم، ‏{‏وجعلنا له نورًا‏}‏ في قلبه أي‏:‏ نور الإيمان والعلم، ‏{‏يمشي به في الناس‏}‏، فيذكرهم بالله، ويدلهم على الله، ‏{‏كمن مثله‏}‏ غريق ‏{‏في الظلمات‏}‏ في ظلمة الكفر والجهل والتقليد والذنوب، ‏{‏ليس بخارج منها‏}‏ أي‏:‏ لا يفارق ضلالته بحال‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما زُين الإيمان لهؤلاء ‏{‏زُين للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ مَثل به من هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال، وجعل له نورَ الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، ثم قال‏:‏ والآية نزلت في حمزة وأبي جهل، وقيل‏:‏ في عمّار وعُمر وأبي جهل‏.‏ ه‏.‏ ولفظها أعم، وفي الآية من أنواع البيان‏:‏ الطباق؛ في قوله‏:‏ ‏{‏ميتًا فأحييناه‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الروح تكون أولاً على الفطرة التي فطرها الله عليها، من العلم والإقرار بالربوبية، فإذا بلغت قد تطرأ عليها موتات، ثم تحيا من كل واحدة على حسب المشيئة، فقد تموت بالكفر، ثم تحيا بالإيمان، وقد تموت بالذنوب والجرائم، ثم تحيا بالتوبة، وقد تموت بالحظوظ والشهوات، ثم تحيا بالزهد والورع والرياضة، وقد تموت بالغفلة والبطالة ثم تحيا باليقظة والإنابة، وقد تموت برؤية الحس وسجن الأكوان والهيكل، ثم تحيا برؤية المعاني وخروج الفكرة إلى فضاء الشهود والعيان، ثم لا موت بعد هذا إلى أبد الأبد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏جعلنا‏}‏ بمعنى صيَّرنا، يتعدى إلى مفعولين، و‏{‏مجرميها‏}‏‏:‏ مفعول أول، مؤخر، و‏{‏أكابر‏}‏‏:‏ مفعول ثان، وفيه ضعف من جهة الصناعة؛ لأن أكابر جمع أكبر، وهو من أفعل التفضيل، فلا يستعمل إلا بالإضافة، أو مقرونًا بمن‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

قلت‏:‏ ويُجاب بأنه لم يقصد به المفاضلة، وإنما المراد مطلق الوصف، أي‏:‏ جعلناهم كبراء، فلا يلزم إفراده ولا اقترانه بمن‏.‏ فتأمله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها، ليمكروا فيها بأهلها، ‏{‏جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها‏}‏ أي‏:‏ مجرميها أكابر، ‏{‏ليمكروا فيها‏}‏ بمن فيها، فيمكروا بالناس فيتبعوهم على ذلك المكر، لأنهم أكابر تصعب مخالفتهم، فيحملونهم على الكفر والعصيان، ويخذلونهم عن الإسلام والإيمان، ‏{‏وما يمكرون إلا بأنفسهم‏}‏؛ لأن وبال مكرهم راحج إليهم، ‏{‏وما يشعرون‏}‏ بذلك‏.‏

الاشارة‏:‏ إذا أراد الله بقومٍ خيرًا جعل الخير في أكابرهم‏:‏ فيجعل أُمراءهم عُدولاً حُلَماء، وعلماءهم زهَّادًا أعفَّاءً، وأغنياءهم رحماء أسخياء، وصُلحاءهم قانعين أغنياء، وإذا أراد بهم شرًا جعل الشر في كبرائهم، فيجعل أمراءهم فجارًا يحكمون بالهوى، وعلماءهم حراصًا جامعين للدنيا، وأغنياءهم أشحاء قاسية قلوبهم، وصلحاءهم طماعين في الناس، منتظرين لما في أيديهم، فبهؤلاء يصلح الدين إذا صلحوا، ويفسد إذا فسدوا، وفي ذلك يقول ابن المبارك رحمه الله‏:‏

وَهَل أفسَدَ الدِّينَ إلا المُلُوكُ *** وأحبارُ سُوءٍ وَرُهبَانُها

وقد تقدم تمامه في تفسير سورة البقرة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حيث‏}‏‏:‏ مفعول بفعل مقدر، لا بأعلم؛ لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، أي‏:‏ يعلم حيث يجعل رسالته، أي‏:‏ يعلم المكان الذي يصلح للرسالة، إلا إن أوِّلَ أفعل بما لا تفضيل فيه، فينتصب المفعول به، ويحتمل أن يكون هذا منه، قال أبو حيان‏:‏ ويحتمل أن تكون حيث على بابها من الظرفية المجازية، ويُضَمَّنُ أعلم معنى يتعدى إلى الظرف، والتقدير‏:‏ الله أنفذ علمًا حيث يجعل رسالته‏.‏ انظر المحشي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءتهم‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المجرمين الأكابر، ‏{‏آية‏}‏ نزلت على نبي، ‏{‏قالوا لن نؤمن‏}‏ بها ‏{‏حتى نُؤتى‏}‏ من النبوة ‏{‏مثل ما أُوتي رسلُ الله‏}‏، فنكون أنبياء مثلهم، والقائل لهذه المقالة أبو جهل، قال‏:‏ تزاحمنا‏:‏ بنو عبد مناف الشرف مع بني هاشم، حتى إذا صِرنا كَفَرَسَى رهان، قالو‏:‏ منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ في الوليد بن المغيرة، قال‏:‏ أنا أولى بالنبوة من محمد‏.‏ فرد الله على من قال ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏اللهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏ فَعَلِم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها، فحرمهم إياها، فإن النبوة ليست بمجرد النسب والمال، وإنما هي بفضائل نفسانية يَخُصُّ الله بها من يشاء من عباده، بل بمحض الفضل والكرم، فيجتبى لرسالته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها‏.‏

ثم ذكر وعيد المنكرين، فقال‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله‏}‏ أي‏:‏ ذل وحقارة يوم القيامة، بعد تكبرهم وارتفاعهم في الدنيا‏.‏ رُوِي «أنهم يُبعثون في صورة الذَّرِّ، يطؤهم الناس في المَحشَر»‏.‏ ‏{‏و‏}‏ يصيبهم ‏{‏عذاب شديد بما كانوا يمكرون‏}‏ أي‏:‏ بسبب مكرهم، أو جزاء مكرهم‏.‏ كما تدين تدان‏.‏

الإشارة‏:‏ ما حَرَم الناسَ من الخير إلا خصلتان‏:‏ التكبر والحسد، فمن طهر قلبه من الحسد، وتواضع لكل أحد، نال الرفعة والشرف عند الله في الدنيا والآخرة، ولا يضع الله سر الخصوصية إلا في قلب طاهر متواضع، يحط صاحبه رأسه لأقدام الرجال، ويذل نفسه لأهل الصفاء والكمال، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

يا مَن يَلُوم خمْرَة المحَبَّة *** قُولُوا له عَنِّي هَيَ حَلالْ

ومَن يُرِدْ يُسْقَى منها غِبَّا *** خَدّ يضَع لأقدام الرَجالْ

رأسِي حطَطت بكُلِّ شَيبه *** هُم المَوالِي سَقَونِي زلالْ

فكما أن الحق تعالى علم حيث يجعل رسالته، علم حيث يجعل سر ولايته، وهي النفوس المتواضعة المتطهرة من رذائل النفوس؛ كالحسد والكبر وسائر الأوصاف المذمومة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 126‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ ‏{‏حرَجًا‏}‏؛ بالفتح، فهو مصدر وُصف به للمبالغة، ومن قرأ بالكسر، فوصف، أي‏:‏ شديد الضيق، ومن قرأ ‏{‏يَصَّعَّد‏}‏؛ بالشد والقصر، فأصله‏:‏ يتصعد، أدغم التاء في الصاد، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏يصّاعد‏}‏؛ فأصله‏:‏ يتصاعد، فأدغم أيضًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمن يُرد الله أن يهديه‏}‏ أي‏:‏ يعرِّفه طريق الحق ويوفقه للإيمان ‏{‏يشرح صدرَه‏}‏ أي‏:‏ يوسعه ‏{‏للإسلام‏}‏، فيتسع له، ويقبله، ويغتبط به، ويبتهج، فرحًا وسرورًا‏.‏ والشرح‏:‏ كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مهيأة لحلوله فيها، مصفاة عما يمنعها منه، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم، حين سُئل عنه، فقال‏:‏ «نُورٌ يقذفه الله في قَلبِ المؤمن، فينشرح له وينفسح» قالوا‏:‏ هل لذلك أمارة يعرف بها‏؟‏ قال «نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول»‏.‏

ثم ذكر ضدَّه، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا‏}‏؛ شديد الضيق، بحيث ينبو عن قبول الحق، فلا يدخله الإيمان، ولا ينشرح صدره له، بل يفر منه، ويثقل عليه ‏{‏كأنما يصَّعَّد في السماء‏}‏ أي‏:‏ يتكلف الصعود فيه‏.‏ شَبَّههُ على وجه المبالغة بمن يُحاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء غاية فيما يبعد عن الاستطاعة، تنبيهًا على أن الإيمان تَمَنَّع عليه كما يمتنع عليه الصعود إلى السماء، ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ كما يضيق صدر الكافر ويبعد قلبه عن الحق، ‏{‏يجعل الله الرجس‏}‏ أي‏:‏ العذاب والخذلان، ‏{‏على الذين لا يؤمنون‏}‏، ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل‏.‏

‏{‏وهذا‏}‏ البيان الذي جاء به القرآن، أو ما سبق من التوفيق والخذلان، ‏{‏صراط ربك‏}‏ أي‏:‏ الطريق الذي ارتضاه، إن قلنا‏:‏ الإشارة للبيان، أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته، إن قلنا ما سبق من التوفيق والخذلان، حال كونه ‏{‏مستقيمًا‏}‏ لا عوج فيه، أو عادلاً مطردًا لا جور فيه، ‏{‏قد فصَّلنا الآيات‏}‏ أي‏:‏ بينَّاها ‏{‏لقوم يذكَّرون‏}‏ فيعلمون أن الفاعل هو الله وحده، وأن كل ما يحدث من خير وشر، أو إيمان وكفر، بقضائه وخلقه، فإنه عالم بأفعال العباد، حكيم عادل فيما يفعل بهم من تقريب أو إبعاد‏.‏

الإشارة‏:‏ فمن يُرد الله أن يهديه لسر الخصوصية ونور الولاية يشرح صدره للدخول في طريقها، ويوفقه لبذل نفسه وروحه في تحصيلها، ويصبَّرُه على حمل لأوائها، وينهضه إلى السير في ميدانها، بعد أن يسقطه على شيخ كامل عارف بطريقها، فيحققه بخصوصيته، ويطلعه على سر ولايته، حتى يُلقى القياد إليه بكليته، فلا يَزَالُ يُسَايره حتى يقول له‏:‏ ها أنت وربك‏.‏ ومن يريد أن يضله عنها يجعل صدره ضيقًا عن قبولها، حرجًا عن الدخول فيها، حتى يثقل عليه حمل أعبائها، أو ينكر وجود أهلها، كذلك يجعل الله رجس حجابه على الذين لا يؤمنون بطريق الخصوص، فإنه طريق مستقيم يُوصل إلى حضرة النعيم في الدنيا والآخرة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام‏}‏ التي هي الجنة‏.‏ والسلام اسم الحق تعالى، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لها، أو دار السلامة من المكاره، أو دار التحية؛ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 23؛ يونس‏:‏ 10‏]‏، ‏{‏عند ربهم‏}‏ ذخيرة لهم عنده حين يقدمون عليه، لا يعلم كنهها غيره، أو في ضمانه وكفالته، ‏{‏وهو وليهمُ‏}‏ أي‏:‏ مولاهم وناصرهم في الدارين، ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ بسبب أعمالهم، أي‏:‏ تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة، فيحفظهم في الدنيا، هم وذريتهم، ويحفظهم في الآخرة كذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ من هداه الله لطريق الخصوصية، واستعمله في الوصول إليها، ووصله إلى من يسيره إليها، فقد دخل دار السلام قبل موته، فللَّه جنتان؛ جنة المعارف وجنة الزخارف، من دخل جنة المعارف لم يشتق إلى جنة الزخارف، لأن الله تولاه وأغناه عما سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏‏:‏ حال مقدَّرة من الكاف، والعامل فيه‏:‏ ‏{‏مثواكم‏}‏، إن جعل مصدرًا، أو معنى الإضافة، إن جعل مكانًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم نحشرهم‏}‏ أي‏:‏ الثقلين، ‏{‏جميعًا‏}‏ ونقول‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن‏}‏ أي‏:‏ الشياطين ‏{‏قد استكثرتم من الإنس‏}‏ أي‏:‏ من إغوائهم وإضلالهم، أو استكثرتم منهم بأن جعلتموهم في أتباعكم، فحُشروا معكم، ‏{‏وقال أولياؤهم من الإنس‏}‏ الذين أطاعوهم في الكفر‏:‏ ‏{‏ربنا استمتع بعضنا ببعض‏}‏ أي‏:‏ انتفع الإنس بالجن، بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، وانتفع الجن بالإنس بأن أطاعوهم وحَصَّلوا مرادهم‏:‏ وقيل‏:‏ استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذُون بهم في المفارز وعند المخاوف، كان الرجل إذا نزل واديًا يقول‏:‏ أعوذ بصاحب هذا الواد، يعني كبير الجن، واستمتاعهم بالإنس‏:‏ اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم، ‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ وهو الموت أو البعث والحشر، وهو اعترافٌ بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وتحسرٌ على حالهم، وإظهار للأستكانة والضعف‏.‏ أقروا بذنبهم لعله ينفعهم‏.‏

‏{‏قال النار مثواكم‏}‏‏:‏ منزلكم، ‏{‏خالدين فيها إلا ما شاء الله‏}‏؛ إلا أوقات، ينتقلون فيها من النار إلى الزمهرير، وقيل‏:‏ ليس المراد بالاستثناء هنا الإخراج، وإنما هو على وجه الآدب مع الله وإسناد الأمور إليه‏.‏ وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله، ‏{‏إن ربك حكيم‏}‏ في أفعاله، ‏{‏عليم‏}‏ بأعمال الثقلين‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ كما ولينا الشياطين على الكفرة، ‏{‏نُوَلِّي بعض الظالمين بعضًا‏}‏ أي‏:‏ نَكَّل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضًا يتولى بعض فيقويهم، أو‏:‏ أولياءهم وقرناءهم في العذاب، كما كانوا قرناء في الدنيا، وذلك التولي والتسليط ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

الإشارة‏:‏ ليست الآية خاصة بالكفار، بل كان عَوَّق الناسَ عن طريق الخصوص، واستكثر من العموم؛ بأن أبقاهم في حزبه، يقال له‏:‏ يا معشر أهل الرياسة قد استكثرتم من العموم، فيقول أهل اليمين من العموم‏:‏ ربنا استمتع بعضنا ببعض فتبعناهم في الوقوف مع الحظوظ والعوائد، وتمتعوا بتكثير سوادهم بنا وتنعيش رياستهم، مع ما يلحقهم من الارتفاق من قِبلنا، فيقول الحق تعالى‏:‏ نار القطيعة والحجاب مثواكم خالدين فيها، إلا وقت الرؤية مع عوام الخلق، وهذه عادته تعالى‏:‏ يولي بعض الغافلين بعضًا بسبب غفلتهم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ إرشاد إلى استعمال الأدب، وردُ الأمور كلها إلى رب الأرباب، وعدم التحكيم على غيب مشيئته وعلمه، وقوفًا مع ظاهر الوعد أو الوعيد، فالأكابر لا يقفون مع وعد ولا وعيد، كقول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 118‏]‏، وكقوله إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِي شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 80‏]‏ الآية، وكقوله‏:‏

‏{‏وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وكقول شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 89‏]‏، وكاستغفار نبينا صلى الله عليه وسلم للمنافقين قبل نزول النهي، وبعد نزوله، ‏{‏إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏ وكقوله، يوم بدر‏:‏ «إن تهلك هذه العصابة لن تعبد»، مع تقدم الوعد بالنصر، وكخوف موسى بعد قوله‏:‏ ‏{‏لآ تَخَافَآ إِنَّني مَعَكُمَآ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 46‏]‏ الآية‏.‏

ومنه‏:‏ خوف الأكابر بعد تأمينهم؛ لأن ظاهر الوعد والوعيد لا يقضي على باطن المشيئة والعلم، ومثله يجري في سورة هود في قوله‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 107‏]‏، وفي سورة يوسف‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 110‏]‏ بالتخفيف، وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة، وانظر الورتجبي‏.‏ فقد انفرد بمقالة، بعد حكاية اتفاق مذاهب المسلمين جميعًا على عدم غفران الشرك، ولكن قول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يشير إلى ما أشار إليه ابن عباس وابن مسعود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ قال‏:‏ تؤمر النار أن تأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، ويرجى من كرم الله ولطفه إدخالهم بعد ذلك الجنة، قال‏:‏ وهذا مرجو، ليس بمعتقد أهل السنة‏.‏ ه‏.‏

قال في الحاشية‏:‏ وهو يرجع عند التحقيق إلى طرح الأسباب وعدم الوقوف معها، نظرًا إلى أن الحق تعالى لا يتقيد في وعيد ولا وعد، فمن غلبه النظر إليه، سرى إليه الرجاء في عين التخويف، كما أنه يسري الخوف في عين الرجاء، لكونه اقتطع من الوقوف مع خصوص وصف، ولما كانت تلك الحالة هي عين الأدب اللائق بالعبودية مع الله تعالى أرشد تعالى إليها بقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏، ‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 107‏]‏، وهو حال أهل الحقيقة، والوقوف مع خصوص الوعد أو الوعيد حال أهل الشريعة‏.‏ انتهى ببعض اختصار‏.‏ وقد رد الثعالبي هذه المقالة التي حكاها الورتجبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 134‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ذلك أن لم يكن ربك‏}‏‏:‏ خبر عن مضمر، وأن على حذف لام العلة، أي‏:‏ الأمر ذلك؛ لأجل أن لم يكن ربك متصفًا بالظلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يوم القيامة في توبيخ الكفار‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ أي‏:‏ من مجموعكم، أو رسل الجن‏:‏ نُذُرُهم الذين يبلغون لهم شريعة الأنس؛ إذ ليس في الجن رسل على المشهور‏.‏ ورَوى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، واحتج بأنا لله تعالى أخبَر أن من الجن والإنس رسلاً أرسلوا إليهم، يعني ظاهر هذه الآية‏.‏ وأجاب الجمهور بأن معنى الآية‏:‏ أن رسل الإنس رسل من قبل الله أليهم، ورسل الجن يبلغون كلام رسل الأنس إليهم، ولهذا قال قائلهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏ الآية، فالرسالة إلى الجن خاصة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ مع الإنس‏.‏

حال كون الرسل الذين أتوكم ‏{‏يقصون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا‏}‏ يعني يوم القيامة، قالوا في الجواب‏:‏ ‏{‏شهدنا على أنفسنا‏}‏ بالكفر والعصيان، وهو اعتراف منهم بما فعلوا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏؛ ألهتهم بزخرفها عن النظر والتفكر، ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏، وهذا ذم لهم على سُوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات الفاتية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد؛ تحذيرًا للسامعين وإرشادًا لهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الإرشال حكمته ل ‏{‏أن لم يكن ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون‏}‏ أي‏:‏ إنما أرسلَ الرسل لئلا يكون ظالمًا لهم بإهلاكهم بسبب ظلم فعلوه، وهم غافلون عن الإنذار، بحيث لم ينذرهم أحد، أو‏:‏ لم يكن مهلك القرى ملتبسًا بظلم حيث أهلكهم من غير إنذار، ففاعل الظلم، على الأول‏:‏ القرى، وعلى الثاني‏:‏ الله تعالى، على تقدير إهلاكهم من غير إنذار‏.‏ والأول يتمشى على مذهب المعتزلة، والثاني على مذهب أهل السنة‏.‏ انظر ابن جزي‏.‏

‏{‏ولكلٍّ‏}‏ من الإنس والجن ‏{‏درجات‏}‏؛ مراتب، ‏{‏مما عملوا‏}‏ من أجل أعمالهم بالخير والشر، فهم متفاوتون في النعيم والعذاب، وظاهر الآية‏:‏ أن الجن يُثابون ويُعاقبون؛ لأنهم مكلفون، وهو المشهور، واختلف‏:‏ هل يدخلون الجنة أم لا‏؟‏ فروى الطبري وابنُ أبي حاتم عن أبي الدرداء موقوفًا‏:‏ أنهم يكونون ترابًا كسائر الحيوانات، ورُوِي عن أبي حنيفة مثله، وذهب الجمهور وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف، وغيرهم؛ أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة‏.‏ ثم اختلفوا، هل يدخلون مدخل الإنس، وهو الأكثر، أو يكونون في ربض الجنة، وهو عن مالك وطائفته، أو أنهم أصحاب الأعراف، أو التوقف عن الجواب‏؟‏ في هذا أربعة أقوال، والله تعالى أعلم بغيبه‏.‏

‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب‏.‏

‏{‏وربك الغني‏}‏ عن العباد وعبادتهم، ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ يترحم عليهم بالتكليف، تكميلاً، ويمهلهم على المعاصي حلمًا، وليس له حاجة في طاعة ولا معصية، ‏{‏إن يشأ يُذهبكم‏}‏ أيها العصاة، ‏{‏ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏}‏ من الخلق، ‏{‏كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏؛ فأنشأكم قرنًا بعد قرن، لكنه أبقاكم رحمة بكم، ‏{‏إنَّ ما توعدون‏}‏ من البعث وما بعده، ‏{‏لآتٍ‏}‏ لا محالة، ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏؛ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أن الحق تعالى لم يُعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل، كذلك لا يُعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء؛ وهم أهل التربية النبوية، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مصرًا على الكبائر أي‏:‏ كبائر القلوب وهو لا يشعر، فيلقى الله بقلب سقيم، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم، ومعاتبته له‏:‏ بُعدُهُ عن مشاهدته وعن مقام المقربين، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة، قال‏:‏ غرتنا الحياة الدنيا ورخارفها، وجاهها ورياستها، وشهد على نفسه أنه كان غافلاً‏.‏

فحِكمة وجود الأولياء في كل قرن؛ لتقوم الحجة على أهل الغفلة، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالمًا لهم، فالدرجات على حسب المقامات، والمقامات على حسب الأعمال، وأعمال القلوب هي التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب، بها يقع القرب، وبالخلو عنها يقع البعد‏.‏ وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء، لأن الأنبياء جاؤوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة، فمن رأوه أهلاً لسر الحقيقة دلًّوه عليها، فكان من المقربين، ومن رأوه ضعيفًا عنها دلوه على الشريعة، فكان من أصحاب اليمين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من تكون‏}‏‏:‏ إما مفعول ‏{‏تعلمون‏}‏، أو مبتدأ، وهي إما موصولة أو استفهامية، والمكانة‏:‏ التمكن أو الجهة، يقال‏:‏ مكان ومكانة كمقام ومقامة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏يا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏ أي‏:‏ تمكنكم من هواكم وشهواتكم التي أنتم عليها، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من الكفر والهوى، والمعنى‏:‏ اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، ‏{‏إني عامل‏}‏ على ما أنا عليه من المصابرة والثبات على الدين الحق‏.‏ والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد، كأن الذي يهدده يريد تعذيبه لا محالة، فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه، وتسجيلٌ بأن المهدد لا يأتي منه إلا الشر، كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم صرح بالتهديد فقال‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏}‏ أي‏:‏ أيُّنا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار، أي‏:‏ وهي الدار الآخرة، أو‏:‏ فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة سكنى الدار الآخرة والنعيم المقيم، أو‏:‏ من تكون له عاقبة هذه الدار بالنصر والظهور على الأديان أنا أو أنتم، وفيه إنصاف في المقال حال الإنذار، وحسن الأدب، وتنبيهٌ على وثوق المنذِر لأنه محق‏.‏ قال تعالى ‏{‏إنه‏}‏، أي‏:‏ الأمر والشأن، ‏{‏لا يُفلح الظالمون‏}‏، والظلم أعلم من الكفر، ولذلك وضُع موضعه؛ لعمومه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا انكب الناس على الدنيا، وأخذتهم الغفلة، وغلب عليهم الهوى، ثم وقع الوعظ والتذكير من أهل الإنذار، فقابَلوهم بالإبعاد والإنكار، يقول لهم المذكور والواعظ‏:‏ ‏{‏يا قوم اعلموا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجعلوا‏}‏ أي‏:‏ مشركو العرب، ‏{‏لله مما ذرأ‏}‏ أي‏:‏ خلق، ‏{‏من الحرث والأنعام نصيبًا‏}‏، وهم حي من خولان، يقال لهم‏:‏ الأديم، كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم وأنعامهم نصيبًا، ‏{‏فقالوا هذا لله بزعمهم‏}‏ أي‏:‏ بدعواهم من غير دليل، وأكثر ما يستعمل الزعم في الكذب، ‏{‏وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يَصِلُ إلى الله وما كان لله فهو يَصِلُ إلى شركائهم‏}‏‏.‏

رُوِي أنهم كانوا يُعينون شيئًا من حرث أو نتاج إلى الله، فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئًا منها إلى آلهتهم، فينفقونه على سدنتهم أي‏:‏ خدَّامهم، والقيام بأصنامهم، ويذبحون عندها، ثم إذا رأوا ما عينوا لله أزكى وأكثر، بدلوه لآلهتهم وقالوا‏:‏ الله غني عنه، وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها؛ حبًا لآلهتهم، وإذا هبت ريح فحملت شيئًا من الذي لله إلى الذين للأصنام أقروه، وإن حملت شيئًا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه، وإذا أصابتهم سَنَةٌ، أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، تعظيمًا لها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مما ذرأ‏}‏‏:‏ تنبيه على فرط جهالتهم، فإنهم أشركوا الخالق في خلقه، جمادًا لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وفي قوله‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏‏:‏ تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه، ولم يأمرهم الله تعالى به‏.‏ ‏{‏ساء‏}‏ أي‏:‏ قبح، ‏{‏ما يحكمون‏}‏ حكمهم هذا الذي اخترعوه من عند أنفسهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مما ينخرط في سلك الآية‏.‏ وتجر ذيلها عليه، ما يفعله بعض الناس من التساهل في حقوق الله الواجبة، والمسارعة إلى حقوق الناس التي ليست بواجبة عليه، فترى بعض العوام يقدمون مد أبي العباس السبتي، ويتساهل في الزكاة، وترى بعض الناس يُسارع إلى إطعام الطعام وقرى الأضياف، وهو لا يفي زكاته‏.‏ وبعضهم يجعلون للصالحين شيئًا من أموالهم لتصلح وتنمو ويعتني بشأنها، وقد لا يعتني بزكاته ولا يخرجها، وهذا كله شعبة من فعل أهل الشرك، وعلامة اتباع الهوى‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زَيَّن‏}‏؛ بالبناء للفاعل ونصب قتل، على أنه مفعول به، وخفض ‏{‏أولادهم‏}‏ بالإضافة ورفع ‏{‏شركاؤهم‏}‏؛ فاعل ‏{‏زين‏}‏، فالشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل، وقرأ ابن عامر‏:‏ بضم الزاي؛ على البناء للمفعول، ورفع ‏{‏قتل‏}‏؛ على النيابة عن الفاعل، ونصب ‏{‏أولادهم‏}‏ على أنه مفعول بقتل، وخفض «شركائهم» بالإضافة إلى قتل، إضافة المصدر إلى فاعله، أي‏:‏ زُين لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بأولادهم، وهو معمول للمصدر، وهو جائز في العربية، قال ابن مالك في الألفية‏:‏

فَصلَ مُضَافٍ شِبهِ فِعلٍ مَا نَصب *** مَفعولاً أو ظَرفًا أجِز، ولم يُعب

وهذا من فصل المفعول، فهو جائز في السعة؛ خلافًا للزمخشري ومن تبعه، وقد شنَّع عليه الشاطبي في حرز الأماني‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ومثل ذلك التزيين الذي وقع لهم في الحرث والأنعام، ‏{‏زَيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم‏}‏؛ زين لهم ذلك شركاؤهم من الجن، أو من السدنَة، وحملوهم عليه، خوفًا من الجوع أو من العار، وكانوا يقتلون البنات دون البنين، زينوا لهم ذلك ‏{‏لُيردُوهم‏}‏ أي‏:‏ ليهلكوهم بالإغواء، ‏{‏وليلبسوا عليهم دينهم‏}‏ أي‏:‏ ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به، ‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ أي‏:‏ ما فعل المشركين ما زين لهم، أو ما فعل الشركاء التزيين، أو الفريقان جميع ذلك، ‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏ أي‏:‏ اتركهم مع افترائهم، أو‏:‏ والذي يفترونه من الإفك، وهذا قبل الأمر بالسيف، ثم نسخ به‏.‏

الإشارة‏:‏ مما ينخرط في سلك الآية‏:‏ إهانة البنات وتعظيم البنين، وقد نهى الشارع عليه الصلاة والسلام عن تخصيص الذكور بالوصية، وقال للذي أراد أن يفعله‏:‏ «لا تُشهدني على جور»، وهنا إشارة أرق من هذا، وهو أن يراد بالأولاد ما تنتجه الفكرة الصافية من العلوم والمواهب، وقتلها‏:‏ إهمال الفكرة عن استخراجها حتى ضاعت عليه، والذي زين له ذلك هو شرك القلب، واشتغاله برسوم الفرق، حتى تعطلت الفكرة، وماتت تلك العلوم من قلبه، وقع ذلك التزيين بأهل الفرق ليسقطوهم عن درجة المقربين؛ أهل العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وليلبسوا عليهم دينهم بالخواطر والشكوك، والأوهام، ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حِجْر‏}‏‏:‏ فعل، بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث، ومعناه‏:‏ حرام، و‏{‏افتراء‏}‏‏:‏ حال، أو مفعول من أجله، أو مصدر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أيضًا‏:‏ ‏{‏هذه‏}‏ الأشياء التي جعلوها لأصنامهم، وهي ‏{‏أنعام وحرث‏}‏، هي ‏{‏حِجْرٌ‏}‏ أي‏:‏ حرام محجر، ‏{‏لا يَطعمها‏}‏، لا يأكلها ‏{‏إلا من نشاء‏}‏، وهم خُدام الأوثان وسدنتها، والرجال دون النساء‏.‏ قالوا ذلك ‏{‏بزعمهم‏}‏ وافترائهم من غير حجة، ‏{‏وأنعام‏}‏ أخرى ‏{‏حُرمت ظهورها‏}‏؛ وهي البحائر والسوائب والحوامي، ‏{‏وأنعام‏}‏ أخرى ‏{‏لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ في الذبح، وإنما يذكرون عليه اسم آلهتهم؛ ‏{‏افتراء‏}‏ على الله، لأنهم قسموا أموالهم على هذه القسمة، ونسبوا ذلك إلى الله؛ افتراءً وكذبًا، ‏{‏سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏ أي‏:‏ بسببه فيعذبهم الله‏.‏

الإشاره‏:‏ ما عاب الله على المشركين إلا الشرك والتحكم على الله، فالواجب على من أراد السلامة أن يُوحد ربه، وينفرد بكُلِّيته إليه، ويُخلص أعماله لله، ويصرف أمواله في مرضاة الله، ويقف في أموره كلها عندما حدد له الله، وبَيَّنه رسولُ الله؛ يكونُ من أولياء الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏